أطـــوار خـــلـــق الإنــســــان وخــاتــمــتــه-4- عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعـود رضي الله عنه ، قال : حدثنا رسول الله صلي الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق -
إن
أحـدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفه ، ثم يكون علقة مثل ذلك ،
ثم يكون مـضغـة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويـؤمر
بأربع كلمات : بكتب رزقه ، واجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد ؛ فوالله الـذي لا
إلــه غـيره إن أحــدكم ليعـمل بعمل أهل الجنه حتى ما يكون بينه وبينها
إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعـمل بعـمل أهــل النار فـيـدخـلها . وإن
أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فــيسـبـق
عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها )
متفق عليه
الــــشـــــرحمفردات الحديث:" المصدوق": فيما أوحي إليه، لأن الملك جبيريل يأتيه بالصدق، والله سبحانه وتعالى يصدقه فيما وعده به.
" يُجمع " يُضَم ويُحفظ، وقيل : يُقَدَّر ويُجمع.
" في بطن أمه ": في رحمها.
" نطفة": أصل النطفة الماء الصافي، المراد هنا: منياً.
" علقة": قطعة دم لم تيبس، سميت " علقة ".
" فيسبق عليه الكتاب ": الذي سبق في علم الله تعالى.
المعنى العام:1- أطوار الجنين في الرحم: يدل هذا الحديث
على أن الجنين يتقلب في مئة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار، في كل أربعين
يوماً منها يكون في طور؛ فيكون في الأربعين الأولى نطفة، ثم في الأربعين
الثانية علقة، ثم في الأربعين الثالثة مضغة، ثم بعد المئة وعشرين يوماً
ينفخ فيه الملك الروح، ويكتب له هذه الكلمات الأربعة.
والحكمة في خلق الله تعالى للإنسان بهذا الترتيب ووفق هذا التطور والتدرج
من حال إلى حال، مع قدرته سبحانه وتعالى على إيجاده كاملاً في أسرع لحظة :
هي انتظام خلق الإنسان مع خلق كون الله الفسيح وفق أسباب ومسببات ومقدمات
ونتائج، وهذا أبلغ في تبيان قدرة الله.. كما نلحظ في هذا التدرج تعليم الله
تعالى لعباده التأني في أمورهم والبعد عن التسرع والعجلة، وفيه إعلام
الإنسان بأن حصول الكمال المعنوي له إنما يكون بطريق التدريج نظير حصول
الكمال الظاهر له بتدرجه في مراتب الخلق وانتقاله من طور إلى طور إلى أن
يبلغ أشده، فكذلك ينبغي له في مراتب السلوك أن يكون على نظير هذا المنوال.
2- نفخ الروح: اتفق العلماء على أن نفخ
الروح في الجنين يكون بعد مضي مئة وعشرين يوماً على الاجتماع بين الزوجين،
وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة وعليه
يُعوَّل فيما يُحتاج إليه من الأحكام من الاستلحاق ووجوب النفقات، وذلك
للثقة بحركة الجنين في الرحم، ومن هنا كانت الحكمة في أن المرأة المتوفى
عنها زوجها تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام؛ لتحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة
دون ظهور أثر الحمل.
والروح: ما يحيا به الإنسان، وهو من أمر الله تعالى، كما أخبر في كتابه العزيز
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] .
3- تحريم إسقاط الجنين: اتفق العلماء على
تحريم إسقاط الجنين بعد نفخ الروح فيه؛ واعتبروا ذلك جريمة لا يحل للمسلم
أن يفعله، لأنه جناية على حيٍّ متكامل الخلق ظاهر الحياة.
وإما إسقاط الجنين قبل نفخ الروح فيه حرام أيضاً، وإلى ذلك ذهب أغلب الفقهاء، "
وقد رخَّصَ طائفة من الفقهاء للمرأة في إسقاط ما في بطنها ما لم ينفخ فيه الروح وجعلوه كالعزل.4- إن الله تعالى يعلم أحوال الخلق قبل أن يخلقهم، فما يكون منهم شيء من إيمان وطاعة أو كفر ومعصية، وسعادة وشقاوة؛ إلا بعلم
الله وإرادته، وقد تكاثرت النصوص بذكر الكتاب السابق؛ ففي البخاري عن علي
بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما
من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، وإلا قد كتبت
شقية أو سعيدة، فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟
فقال: اعملوا فكلٌّ مَيَسَّرٌ لما خُلِقَ له، أما أهل السعادة فيُيَسَّرون
لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [ الليل: 5-6].
وعلى ذلك فإن عِلْمَ الله لا يَرفع عن العبد الاختيار والقصد؛ لأن العلم
صفة غير مؤثرة بل هو صفة كاشفه، وقد أمر الله تعالى الخلق بالإيمان
والطاعة، ونهاهم عن الكفر والمعصية، وذلك برهان على أن للعبد اختياراً
وقصداً إلى ما يريد، وإلا كان أمر الله تعالى ونهيه عبثاً، وذلك محال، قال
الله تعالى:
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10].
5- الاحتجاج بالقدر: لقد أمرنا الله تعالى
بالإيمان به وطاعته، ونهانا عن الكفر به سبحانه وتعالى ومعصيته، وذلك ما
كلفنا به، وما قدره الله لنا أو علينا مجهول لا علم لنا به ولسنا مسؤولين
عنه، فلا يحتج صاحب الضلالة والكفر والفسق بقدر الله وكتابته وإرادته قبل
وقوع ذلك منه قال الله تعالى:
{وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105].
أما بعد وقوع المقدور فيكون الاحتجاج بالقدر مأذوناً به، لما يجد المؤمن من
راحة عند خضوعه لقضاء الله تعالى، وقضاء الله تعالى للمؤمن يجري بالخير في
صورتي السراء والضراء.
قال ابن حجر الهيتمي: إن خاتمة السوء تكون - والعياذ بالله - بسبب دسيسة
باطنية للعبد، ولا يطلع عليها الناس، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار
وفي باطنه خصلة خير خفية تغلب عليه آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة. انتهى.
وهذا يوضح رواية ثانية للحديث:
"إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس … وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس … " (متفق عليه).